النصب التذكاري للجندي المجهول بحديقة الكنيسة
بقلم: الجيلالي طهيرفي لوحة غنائية بديعة عن لوعة الأشواق، أنشد الرائع محمد رويشة في بداية الثمانينات: " أتمنيت العالي يا بابا، يريبو لحيوط، يبان لمربوط". لم يكن الفنان الشعبي من عشاق الخراب، مثل طيور البوم التي تعشش بأطلال قيسارية برشيد، وهو القائل: " بكات العين، الحبيب معرفتو فين؛ واش المربوط، تيلموه الناس؟". وكان عبر بعد ذلك عن عشقه الكبير لمدينة خنيفرة فقال: " الأم تلد، ولبلاد تربي". هذا التعبير المبسط من طرف الفنان الشعبي يصيغه علماء النفس بطريقة أخرى، فيقولون: " شيئان أساسيان، أو لنقل اثنان لا ثالث لهما، يحددان مسار حياة الإنسان وشكل هويته: العواطف الموروثة، ومرحلة الطفولة التي صورها لا تنمحي وذكرياتها تقهر الزمن". عندما يحكمنا أشخاص لا يتذوقون النكهة المميزة لحليب برشيد، أو كانوا تركوها قبل الفطام، ثم عادوا لاستغلالها باسم الدين والمال والقبيلة، من أجل الزيادة في تكديس ثروتهم، فثمة الكارثة. ففي جميع بلدان العالم، الأغنياء بحق يضحون من أموالهم في سبيل خدمة مدنهم، لأنها مصدر عزة وافتخار بالنسبة إليهم، بينما أثرياء الريع المزيفون في برشيد يجمعون على قمع الشباب الأحرار، ولا يتورعون عن انتهاز أية فرصة من الفرص لزيادة ثرائهم الشخصي. في تاريخ الأديان السماوية، الله سبحانه وتعالى لا يرضى بتسلط الشيوخ قساة القلوب على الشباب الواعد. لقد كان الأب في المجتمع البدوي القديم يذبح ابنه بإرساله إلى الحرب من أجل السلب والنهب، كي تزداد ثروته المكونة أساسا من الماشية، وذلك على النقيض من الطبيعة القائمة على استمرار النوع البشري عن طريق خلود الابن مكان الأب. ولتصحيح هذه الأوضاع الفاسدة، أرسل الله نبيه سيدنا إبراهيم للشيوخ العتاة وفذاه بذبح عظيم. فسيدنا إبراهيم هنا يرمز إلى الأب الذي يعدم الثروة الحيوانية من أجل إطعام أبناءه، بعد أن كان الأخير يرسلهم إلى الحرب لنهب المجتمع الزراعي. يرمز الكبش في المعتقدات الكنعانية لملك القطيع، وكلمة " إبراهيم" تعني باللغة السريانية : أب راحم. وقد سُئل عبد الله بن مسعود رضي الله عن معنى قوله تعالى "إن إبراهيم لأواه حليم"، فقال: "الأواه الرحيم، معناه أن إبراهيم رحيم رقيق القلب". واقع الحال يشهد بأن برشيد تتحكم فيها الأبوية المتسلطة، من جيل الصمق والصلصال، ويتم تسيير شؤونها عن بعد، بواسطة الهاتف النقال والحساب البنكي، وبعض الوشوشة في هذه الأذن أو تلك. فعندنا شوراع وأزقة لا يسمع صوتها أحد، فتموت بالمحسوبية المقيتة والإهمال المتعمد (نموذج زنقة المسجد بحي النور). وبالأمس كانت جنازة القيسارية الميتة بالغباء السياسي، واليوم جنازة الشعار الميت بالحقد الشخصي على الرئيس السابق، وربما غدا، الكيلوغرامات القليلة المتبقية من تاريخ المدينة تعرض للمزاد العلني، بداخل القبة الزجاجية لحديقة المغرب العربي، الأخت التوأم لمرحاض الشرقاوية، وسط طنين البعوض ورائحة العصافير الميتة: أهلا بالشفافية. حقيقة الأمر، برشيد ليست بالمدينة المثقلة بالتاريخ، ولم يكن لها وجود منذ مائة سنة. قبل ذلك كانت عبارة عن أرض خضراء هادئة، يأتيها صياح الديكة من بعيد، وكان فيها حقول شعير، وبساتين تين، ثم رأى الفرنسيون أن يستغلوها بطريقة أخرى، وحولوها إلى مدينة، وهم يشيدون فوقها أول تجزئة سكنية سموها الحي الأوروبي: "حي لا كار". عند المدخل الرئيسي القديم للمدينة، الرابط بين برشيد والدار البيضاء عبر طريق مديونة، كان الزائر برشيد يجتاز نقطة سافيدا، حيث محطة بيريل لتوزيع الوقود، فيشد انتباهه علامة تشوير، وهي عبارة عن لوحة معدنية مكتوب عليها: "وسط المدينة". على يسار هذه اللوحة، من الجهة الشرقية، كان يتمدد ملعب يوسفية برشيد لكرة القدم، محروسا من طرف السي محمد طارزا، وبسياج حديدي جاء به المرحوم حماد ولد عقيدة من زبالة ماريكان (ديور المطار حاليا). وفي الأفق، كان منظر القبب الثلاثة لمقبرة سيدي زاكور، ومحطات البنزين يحجب الحقول الزاهية الألوان. ثم شيئا فشيئا، لف النسيان أسماء الراقدين تحت التراب، وانسحبت من التداول أسماء مالكي محطات البنزين، وهم: بوعزة ولد العياشي صاحب طوطال 1، الميلودي ولد ربيعة صاحب طوطال 2، بوشعيب بن عبد السلام، عبد القادر ولد المعطي فهمي، إدريس لكورتي صاحب موبيل، اليهودي الحرار، محمد ولد الرامي، الخ. على امتداد الشارع الرئيسي، كانت بضع حافلات صغيرة، مخصصة للربط بين برشيد والنواحي، تجوب الطريق، ذهابا وإيابا، مانحة بعض الشهرة المحلية لأصحابها التالية أسماؤهم: إدريس بنعلي زروق، طريبزات، المقلاع، ادريس الكورتي، الوعدودي، المرناني، الفلاح، الخ. يحكى أن أرباب الحافلات كانوا في بداياتهم يمارسون النقل السري، قبل تسوية وضعيتهم من طرف السلطة الإدارية التي منحتهم رخص النقل. أحدهم كان يسوق جرار الحرث بضيعة الشيخ المضهوس، وآخر كان هو السائق الشخصي لعدل بأولاد علال، وآخر كان يبيع البيض في الأسواق، الخ. وعلى يمين اللوحة المعدنية باتجاه الجهة الغربية، كانت توجد ساحة الساتيام أمام دار البهلول ولد الستي، وهي عبارة عن ملعب عشوائي يركض فيه أطفال آرلو، من جيل سعيد ولد المقلاع، مرحين تحت سماء زرقاء ( حديقة مسجد أحد). ثم يأتي بعدها، محطة البنزين لمالكها ادريس الكورتي (القرض الفلاحي حاليا)، وحديقة الكنيسة التي يخترقها شارع طارق بن زياد وشارع عقبة بن نافع المتجهين نحو ساحة الاستقلال. أمام كنيسة سان لوي، التي يحرسها عمرو قم، كانت تصطف نحو عشرين سيارة أجرة كبيرة ممن ينقلون المسافرين من برشيد إلى الدار البيضاء، لأصحابها: عبار، هلال بوراس، رضا الوعدودي، محي الدين بوعزة، مسعود ولد لفنشة، الجيلالي خو الشيخ صاالح، السي لحبيب ديال حزب الاستقلال، لمفضل شيفور الباشا، الهادي بوزكري، هشام عمر، الكمالي أحمد، الطنطاوي، المكي لكبابطي، الولاية السعيدي، البرنوسي بوشعيب، قديري الحاج محمد، البركاوي السي آمحمد، الخ. خصص جزء من حديقة الكنيسة للنصب التذكاري للجندي المجهول، وبجوارها كان يوجد فندق برشيد للسيدة راشيل (دار الجوالي)، وسينما كاميرا، وصالون الحلاق اليهودي هارون (استوديو ياسين لاحقا)، ومقهى فرنسا لصاحبها ألوكسيو ( لكبير بدري لاحقا) حيث كانت تتوقف حافلات الساتيام القاصدة مدينة مراكش. على طول الشارع، ابتداء من مقهى فرنسا، كانت توجد ورشة إدريس الكورتي لإصلاح لعجلات بجانب مقهى اليوسفية، ثم صيدلية بوجو، وفندق مدام ماط، وصاكة عبد الله ولد الحاج سعيد، وبار جون فيدال حيث تزول الخصومات وتعلو الضحكات، في حضرة البارمان عليوات، عندما يتحول الأعداء إلى أصدقاء مزاودين في التنافس على تقديم البيرة بالمجان: تورني جينيرال. ثم بعد ذلك، تأتي فنادق ومحلات تجارية مختلفة، منها محل عبد الله ولد الحاج سعيد، وبا صالح أوسي وأخوه السي مبارك، السي عمرو الكريزي، وحسن راجل عائشة الباترونا، ومضخة الوقود لصاحبها بابا علي ولد الحيرش، وولد الرامي، وقهيوة آمحمد صاحب الطاهري، وأحذية باطا لمدام موستري، وكانتينا روبير(مقهى بلة وماو لاحقا). ثم دار ولد رقية التي كان يسكنها من قبل الكومري عمار، مستخدم بالبريد قبل انتقاله للدرب الجديد؛ ودار السي عمار ولد بريك بوعود، ولمعلم عباس الكراولي، ودار الحاجة زوجة النصراني، وحانة ملك بار الملذات لصاحبها جاكالوني ، وبار لوسيو (ولد المدني لاحقا). عندما أرادت الحاجة، عمة بوشتة صاحب إدريس الكورتي، وكانت ممرضة بمستشفى الأمراض العصبية، أن تتزوج النصراني، ذهبت عند القاضي الحاج صالح لتعلن رسميا خروجها من دين الإسلام، فقال لها، رددي معي: " أمي حمارة وبويا حمار، خرجت من دين المسلمين ودخلت لدين الكفار". وعندما فتح حجاج ولد بوزيد مقهى اليوسفية في الستينات، ارتأى أن يطلق عليها اسم "مقهى السد العالي"، تيمنا بانجازات الرئيس المصري جمال عبد الناصر حليف الاتحاد السوفياتي، لكن المرحوم الشيخ صالح نصحه بأن يتقي شر السياسة، ويبحث له عن اسم بديل، يحمل دلالات رمزية محلية أو وطنية، فاختار اسم: "مقهى اليوسفية". هنا في هذه الرقعة الصغيرة، حيث تمتزج رائحة العرق البشري برائحة الشواء والبيض المسلوق، والسيراج والبيرة، والدخان والقهوة، كانت توجد قاعة السينما كاميرا، وبها بولو وفتيتة عثمان يشرفان على تدبير غرفة العمليات، المخصصة لتركيب بوبينات الأفلام، قبل أن يحل محلهما مسعود، وعويمير، وعبد القادر مطالو؛ بينما أصبح لحسن شيشا، وعبد الصادق، ولعرج ولد فرياطة يسهرون على الهدوء ومنع التدخين بداخل قاعة العرض. وبالإضافة إلى سينما كاميرا، كانت توجد أماكن أخرى للعرض السينمائي بحي لاكار، وهما سينما الراطا (مقهى لانيكس حاليا)، وسينما المرابو الملحقة بالكنيسة (الهلال الأحمر حاليا)، وسينما كرستال التي كانت تعرض في الهواء الطلق على جدار العربي ولد مسيك. فئة أخرى من الشباب كانت تنشط بهذا الفضاء، ومنهم الشواية وماسحو الأحذية وباعة البيض المسلوق والكعيكعات، الخ. كانت طاولات الشواية تصطف، الواحدة جنب الأخرى، بالقرب من بار فيدال، وخلفها كل من ّ: با لمرابط، محمد بلحجام، بوشعيب وحيد النغيلة، الركراكي، العلوة، وأمينتهم المدعوة أمينة الفقرية. وغير بعيد منهم، كان الموستيك ولد أمي عبازة، أحد مشاهير العازفين على الناي، يواظب على انتظار قدوم حافلات شركة الساتيام لاستلام الطرود البريدية والأمتعة. بينما كانت حافلات النقل المملوكة للأفراد تجد في انتظارها لحسن كجوط بائع البيض المسلوق، وباعة الكعيكعات وهم: الميلودي الضراوي والحلاوي المدكوري. ما يميز حي لاكار عن القيسارية، لا يوجد هنا لا ألجمة ولا برادع ، لا علف ولا بهائم، لا جلابيب ولا عمامات. ماسحو الأحذية يحومون كالذباب بحثا عن زبناء الأناقة المنتعلين أحدية عصرية، وهم يحملون تحت أذرعهم صناديق خشبية صغيرة: العوينة مول الجاج وأخوه العريبي، الوكال، التفيقي، التفيقر، هابيش، بوعلام، بوشعيب لمهف، الشيخ لمهف، بوشعيب ولد العزوزية، الجيلالي حسيب، حميدة زريعة البطيخ. وذات يوم، ربح التفيقي ولد السي عبدالسلام بوزلافة في اللوطو، وأبى إلا أن يبدد مال القمار في لحظات السعادة، فوزع أكواب الجعة ذات اليمين وذات الشمال، بالمجان على زبناء الحانة، حتى آخر قرش. هنا أيضا، في هذه النقطة الساخنة، اعتادت فئة من الناس على ارتياد المكان لأجل التسول أو احتساء الكحول، أو حبا في الظهور بالواجهة الزجاجية للمدينة، مثل: لمعاشي أول متعاطي لشرب الكحول في تاريخ برشيد، قبل جمي وولد الفينش؛ وابريكة، وعبد القادر الأكحل، وطومازني الذي كان يمثل نموذج العاطل من درجة خمسة نجوم، يدخن الغليون ويرتدي ربطة العنق الفراشة، بمقهى فرنسا. Tomazini, le chômeur de luxe avec la pipe au bec et la cravate papillon autour du cou. وبدوره، الأستاذ محمد عبد الوهاب كان يأتي إلى هنا كل صباح، من دوار الحاج عمرو، ويوزع الابتسامة على الجميع. وفي وقت متأخر، سمح أطفال حي لاكار لبوب مارلي بالإقامة والجلوس قبالة دار الباتول بنت لمرابط، من غير أدى. وما عدا ذلك لم يكن مسموحا لأي كان بارتياد المكان، وخصوصا المجانين الدين كانت تأتي بهم الحافلات القادمة من مدن أخرى، وترمي بهم في شارع محمد الخامس. فعند قدوم أي وافد جديد، كان الخبر ينتشر بسرعة في أحياء المدينة، ويهرع بعض الشباب للتعرف عليه ووضعه تحت الاختبار، بنظرة سريعة نفاذه، ثم إطلاق اسم جديد عليه، قبل تحديد مصيره: المستشفى أو القيسارية أو الحرب. هنا وهناك، في حي لا كار، كانت تنتشر الدور السكنية المبنية على الطراز الأوروبي، وقد خصص بعضها لإيواء المصالح الخدماتية والمحلات التجارية، مثل: كريدي ليوني، كاراج بولويزي، عيادة بواترو، بقالة جان بصاراص، بقالة طوريس، بقالة صالح، فران العبدية (أم الريحاني)، مكتبة مدام هشوم، الاسكافي اليهودي (حلاق بن عبد الواحد حاليا)، الخياط الحرار اليهودي، الحلاق هارون اليهودي، الكاتب العمومي كينيكيني، سيارة التعليم لكبير الشتوكي، مقهى الراطا، المخبزة العصرية للمسيو بيار، مخبزة الديك الذهبي للحاج المحفوظ، كريمري حلويات مولطو، الخ. كان هذا جزء من المنظر العام، وبعض من الجو العام بحي لاكار، قبل نحو أربعين سنة وأكثر. ولما جاء الرئيس القادري شطب على ملعب نادي اليوسفية والدكاكين التجارية والمركب الثقافي الملحقين به، من أجل توسعة الشارع الرئيسي للمدينة. وقد أحدث السيد القادري مشروعا خاصا بتوسعة الشارع، لكن خلفه الرئيس محمد طربوز راجع تصميم المشروع، وهو الذي كان من قبل يحرض سكان الجوار ضد توسعة الشارع، عبر صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي. ها هو شارع محمد الخامس، كما نراه الآن في الزمن الحاضر، بعد الإهمال الذي لحقه جراء عبور السواح والموكب الملكي الطريق السيار بدل الطريق الوطنية: سماء جميلة وتحتها شريط أحضر بدون أزهار، أشجار بارزة الجذور تثير الاشمئزاز، متسولون كثر وكلاب ضالة لا تعاني من الخوف، شعار منبوذ وحفريات في كل مكان، أطفال يبيعون كلينيكس عند الضوء الأحمر، يافعون يرقصون أو يعبرون عن مطالب فئوية أمام مقر العمالة.
انتهى، آخر حلقة 2014.
.
: الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014